بِِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الخطبة الأولى
* أيها الناس اتقوا الله تعالى وانظروا في أعمالكم وتأهبوا لرحيلكم وانتقالكم فإنَّ أمامكم المخاطر والأهوال والجزاء على ما قدمتم من الأعمال فإنكم لم تخلقوا عبثًا ولم تُتْرَكوا سُدى بل تُحصى عليكم أَعمالُكم كما قال تعالى :
" وكلُّ شيءٍ فعلوهُ في الزبرِ وكلُّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٍ" .
أمامكم الموتُ وسكراته والقبرُ وظُلماته والحساب وشدته وسؤال الملك وروعته فما هو استعدادكم لهذه المخاطر لقد ذكر الله العبادَ بالموتِ ليستعدوا له قبل نزوله قال الله تعالى : " يا أيها الذين أمنوا لا تلهكم أمولكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين "
" ولن يؤخر اللَّهُ نفسًا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌُُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً قال " أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشي الفقرَ وتَأْمل ُ الغني ولا تتمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا وقد كان لفلان "
" رواه البخاري ومسلم "
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تذكر الموت وتقصير الأمل فقال عليه الصلاة والسلام " أكثر من ذكر هادم اللذات " -يعني الموت -
رواه ابن ماجة وصححه الألباني
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليالٍ إلا وصيته مكتوبة عنده "
" رواه البخاري ومسلم ومالك"
**عباد الله بحلول الموت يختم العمل و لا تقبل التوبة , عن عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما -
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
وعند الموت يتكشف للإنسان خطأه وصوابه وتتضح له عاقبته ، فالمؤمنون عند الموت تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما توعدون نزلا من غفور رحيم "
والكافر يتألم ويعذب عند الموت كما قال تعالى " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذوقوا عذاب الحريق ذلك بم قدمت أيديكم وأنَّ الله ليس بظلامٍٍ للعبيد "
عند ذلك يتمنى الكافر والمفرط والمضيع للحدود الله أن يرجع إلى الدنيا ليصلح ما أفسده وليستدرك ما ضيع فأنى له ذلك وليس له من رحمة "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعما صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون "
إن الموت لا تَمنعُ منه الحصون ولا تدفعه الجنود ولا يقبل فدية ولا يتأخر عن موعده يأخذ الغني والفقير والكبير والصغير والشريف والحقير يأخذ المؤمن والكافر والتقي والفاجر يأخذ الملك والمملوك والمالك والصعلوك ويسوي بينهم في القبور بعد عالي القصور ؛ "وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون "
*** أيها الناس وماذا بعد الموت ؟! هل الموت هو النهاية لمن آمن ومن كفر ومن عمل ومن فرط ؟!!
إن الموت أول منازل الآخرة فبالموت ؛يتوقف العمل ويبدأ الحساب والعقاب ، والقبر له أهوال عظام فهو أما روضة من رياض الحنة وأما حفرة من حفر النار , يُوَسَّع للمؤمن مدَّ البصر ويُضَيَّقُ على الكافر حتى تختلف أضلعه وقد ثبت في عذاب القبر أحاديث عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل أعوذ بالله من أربع ؛ من عذاب جهنم ‘ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ‘ ومن فتنة المسيح الدجال "
*ولعذاب القبر أسباب ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين فقال : " إنهما يعذبان وما يعذبان في كثير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله "
وعذاب القبر يكون للكافر والمؤمن ! فأما الكافر على كفره ، وأم المؤمن على معصيته .
وعذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه ، قُبِرَ أو لم يُقْبَر ، أَكلهُ السبعُ ، أو احترق حتى صار رماداً ، أو نُسِف في الهواء ، أو صُلِبَ ، أو غرق وأكله الحوت ، فإن العذاب يصل إلى بدنه وروحه كم يصل إلى المقبور .
وعذاب القبر من أمور الآخرة التي يجب علينا أن نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه قد تواترت الأخبار عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- في ثبوت عذاب القبر ونعيمة لمن كان لذلك أهلا وسؤال الملكين ويجب اعتقاد ذلك والإيمان به ولا نتكلم في كيفيته إذ ليس للعقل الوقف على كيفيته لكونه لا عهد له في ذلك الدار إذا عَوْدُ الرَّوحِ إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا إلى أن قال فإذا تأملت ذلك حق التأمل ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق العقل وأنه حق لا مرية فيه وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم ويجب أن نعلم أن النار في القبر أو النعيم ليست من جنس نار الدنيا ولا نعيمها وإن كان الله يحمي عليها التراب والحجارة التي فوقه والتي تحته حتى تكون أعظم من نار الدنيا ولو حسها أهل الدنيا لم يحسوا بها بل أعجب من ذلك أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جانب صاحبه وهذا في حفرة من النار وهذا في روضة من ريا ض الجنة ولا يصل من هذا إلى جاره من حر ناره ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمة وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب ولكن النفوس مولعة بتكذيب ما لم تحط به علما .
***عباد الله وبعد القبر ما هوا أشد منه وأبقى ! وهو قيام الساعة والبعث والنشور والحشر والحساب ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد "يوم يدع الداع إلى شيء نُكر خُشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر "
يقفون في صعيد واحد ؛ وتدنوا منهم الشمس حتى تكون قدر ميل أو ميلين فيصهرهم حرها ويعرقون على قدر أعمالهم فمنهم من يأخذه العرق إلى عقبيه ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما !
وهذا الموقوف للحساب فيحاسبون على أعمالهم فمنهم من يكون حسابه يسيرا ومنهم من يكون حسابه عسيرا ويعطون صحائف أعمالهم فمنهم من يعطى كتابه بيمينه ومنهم من يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره وتوزن أعمال العبد فتوضع الحسنات في كِفة ، وتوضع السيئات في الكفة الأخرى فمن ربحت حسناته فاز و أفلح ومن رجحت سيئاته خاب وخسر قال الله تعالى- " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون "
ثم لابد من المرور على الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون كما قال تعالى "وإن منكم إلا وارده كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذروا الظالمين فيها جثيا "
قال ابن كثير : عن ابن مسعود قال : "يرد الناس جميعا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر عليه مثل البرق ومنهم من يمر عليه مثل الريح ومنهم من يمر عليه مثل الطير ومنهم من يمر عليه كأجود الخيل ومنهم من يمر كأجود الإبل ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى أن أخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فينكفئ به الصراط , والصراط دحض فمن له !
والصراط عليه حسك كحسك السَّعَدان ! حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يتخطفون بها الناس , وقوله تعالى " ثم ننجي الذين التقوا " أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط من سقط من الكفار و العصاة ذوي المعاصي بحسب أعمالهم ونجي الله تعالى المؤمنين المتقين منهم بحسب أعمالهم .
وكان السلف يخافون هذه الآية فكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال ياليت أمي لم تلدني ثم , فقيل له ما ك يا أبا ميسرة فقال أخبرنا أنا واردوها ولم يخبرنا أنا صادرون عنها .
فتأمل حالك يا عبد الله حين تواجه ذلك اليوم وذلك الموقف : الكتاب يحصي أعمالك , والله مطلع عليك ،والملائكة تشهد ، والجلود والأعضاء تنطق وتشهد ؛فلا مجال للإنكار ولا مناص من حساب ، فاتقوا هذا الموقف بإصلاح الأعمال ما دمتم في زمن الإمهال ،ولا تملوا على الكاتبين وتطلعوا الشاهدين إلا على ما ينفعكم يوم الدين .
وعلى الإنسان أن يحاسب نفسه ويخلصها مما أوقعها فيها من الخطر بأن يكثر من الحسنات ويتوب من السيئات ، لكن في يوم القيامة لا يمكن أن يتخلص من سيئاته بأي وسيلة كانت لا بالفدية ولا بالجاه ولا بالقرابة "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم شأن يغنيه " .
أي في هذا اليوم يرى الإنسان أقرب الناس إليه في الدنيا فيفر منه يقول عكرمة :يلقى الرجل زوجته فيقول لها يا هذه أي بعل كنت لك ؟
فتقول نعم البعل كنت وتثني بخير ما استطاعت ؛ فيقول لها فإني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِيها لي لعلي أنجو مما ترين ،فتقول ما أيسر ما طلبت ! ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ؛ أتخوف مثل الذي تخاف ، قال وإن الرجل ليلقى ابنه متعلقا به فيقول يا بني ! أي والد كنت لك ؟ فيثني بخير فيقول يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى ، فيقول ولده : يا أبتي ما أيسر ما طلبت ! ولكن أتخوف مثل الذي تتخوف،فلا أستطيع أن أعطيك شيئا .
***اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ ؛ وأعدوا لهذا اليوم عدته ، تصور نفسك أيها الإنسان في هذا اليوم الذي يتخلى فيه عنك الزوجة والولد و الوالد .
أعوذوا بالله من الشيطان الرجيم واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون